وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍۢ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍۢ مِّن مِّثْلِهِۦ وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ
﴿٢٣﴾سورة البقرة تفسير السعدي
وهذا دليل عقلي, على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصحة ما جاء به فقال: وإن كنتم - يا معشر المعاندين للرسول, الرادين دعوته, الزاعمين كذبه - في شك واشتباه, مما نزلنا على عبدنا, هل هو حق أو غيره, فههنا أمر نصف فيه الفيصلة بينكم وبينه.
وهو أنه بشر مثلكم, ليس من جنس آخر, وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم, لا يكتب ولا يقرأ.
فأتاكم بكتاب, أخبركم أنه من عند الله, وقلتم أنتم, إنه تقوله وافتراه.
فإن كان الأمر كما تقولون, فأتوا بسورة من مثله, واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم, فإن هذا أمر يسير عليكم, خصوصا, وأنتم أهل الفصاحة والخطابة, والعداوة العظيمة للرسول.
فإن جئتم بسورة من مثله, فهو كما زعمتم, وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز, فهذا آية كبيرة, ودليل واضح جلي على صدقه وصدق ما جاء به, فيتعين عليكم اتباعه, واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة والشدة, أن كان وقودها الناس والحجارة, ليست كنار الدنيا, التي تتقد بالحطب, وهذه النار الموصوفة, معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله.
فاحذروا الكفر برسوله, بعد ما تبين لكم أنه رسول الله.
وهذه الآية ونحوها يسمونها آية التحدي, وهو تعجيز الخلق عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ويعارضوه بوجه.
قال تعالى " قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا " .
وكيف يقدر المخلوق من تراب, أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟.
أم كيف يقدر الفقير الناقص من جميع الوجوه, أن يأتي بكلام ككلام الكامل, الذي له الكمال المطلق, والغنى الواسع من جميع الوجوه؟.
هذا ليس في الإمكان, ولا في قدرة الإنسان.
وكل من له أدنى ذوق ومعرفة بأنواع الكلام, إذا وزن هذا القرآن بغيره من كلام البلغاء, ظهر له الفرق العظيم.
وفي قوله " وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ " إلى آخره, دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة, هو الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلالة.
فهذا الذي إذا بين له الحق حرى باتباعه, وإن كان صادقا في طلب الحق.
وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه, فهذا لا يمكن رجوعه, لأنه ترك الحق بعد ما تبين, ولم يتركه عن جهل, فلا حيلة فيه.
وكذلك الشاك الذي ليس بصادق في طلب الحق, بل هو معرض, غير مجتهد بطلبه, فهذا - في الغالب - لا يوفق.
وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم, دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم, قيامه بالعبودية, التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين.
كا وصفه بالعبودية في مقام الإسراء فقال " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا " .
وفي مقام تنزيل القرآن عليه فقال " تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا " .