فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ لَعَنَّٰهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَٰسِيَةًۭ ۖ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ ۙ وَنَسُواْ حَظًّۭا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍۢ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًۭا مِّنْهُمْ ۖ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ
﴿١٣﴾سورة المائدة تفسير السعدي
" فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ " أي: بسببه عاقبناهم بعدة عقوبات.
الأولى: أن " لَعَنَّاهُمْ " أي: طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا, حيث أغلقوا على أنفسهم أبواب الرحمة, ولم يقوموا بالعهد الذي أخذ عليهم, الذي هو سببها الأعظم.
الثانية: قوله " وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً " أي: غليظة لا تجدي فيها المواعظ, ولا تنفعها الآيات والنذر, فلا يرغبهم تشويق, ولا يزعجهم تخويف.
وهذا من أعظم العقوبات على العبد, أن يكون قلبه بهذه الصفة, التي لا يفيده معها, الهدى, والخير إلا شرا.
الثالثة: أنهم " يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ " أي: ابتلوا بالتغيير والتبديل, فيجعلون الكلام الذي أراد الله له معنى, غير ما أراد الله, ولا رسوله.
الرابعة: أنهم نسوا " حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ " .
فإنهم ذكروا بالتوراة, وبما أنزل الله على موسى, فنسوا حظا منه.
وهذا شامل, لنسيان علمه, وأنهم نسوه, وضاع عنهم, ولم يوجد كثير مما أنساهم الله إياه, عقوبة منه لهم.
وهذا شامل لنسيان العمل, الذي هو الترك, فلم يوفقوا للقيام بما أمروا به.
ويستدل بهذا على أهل الكتاب, بإنكارهم بعض الذي قد ذكر في كتابهم, أو وقع في زمانهم, أنه مما نسوه.
الخامسة: الخيانة المستمرة التي لا " تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ " أي خيانتهم لله, ولعباده المؤمنين.
ومن أعظم الخيانة منهم, كتمهم الحق, عن من يعظهم, ويحسن فيهم الظن, وإبقاؤهم على كفرهم, فهذه خيانة عظيمة.
وهذه الخصال الذميمة, حاصلة لكل من اتصف بصفاتهم.
فكل من لم يقم بما أمر الله به, وأخذ به عليه الالتزام, كان له نصيب من اللعنة وقسوة القلب, والابتلاء بتحريف الكلم, وأنه لا يوفق للصواب ونسيان حظ مما ذُكِّر به.
وأنه لا بد أن يبتلى بالخيانة.
نسأل الله العافية.
وسمى الله تعالى ما ذكروا به حظا, لأنه هو أعظم الحظوظ, وما عداه فإنما هي حظوظ دنيوية.
كما قال تعالى " فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ " .
وقال في الحظ النافع " وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ " .
وقوله " إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ " أي: فإنهم وفوا بما عاهدوا الله عليه فوفقهم, وهداهم للصراط المستقيم.
" فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ " أي: لا تؤاخذهم بما يصدر منهم من الأذى, الذي يقتضي أن يعفى عنهم.
واصفح, فإن ذلك من الإحسان " وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " .
والإحسان: هو أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه, فإنه يراك.
وفي حق المخلوقين: بذل النفع الديني والدنيوي لهم.